الأزمة المالية والاقتصادية العالمية : أسبابها
وتداعياتها و أبرز عناصرالمنهجية العالمية و الوطنية لمواجهتها.
محاضرة السيد رشيد صفر
الوزير أولا الأسبق .
الأستاذ على فرج رئيس جمعية
الناشئة الأدبية بالمهدية و العميد السابق
لكلية الاقتصاد و التصرف.
السادة الأساتذة الجامعيين النشطين بولاية المهدية.
سيداتي سادتي.
أبنائي وبناتي طلبة كليات المهدية الأعزاء.
يسعدني أن ألبي اليوم الدعوة
الكريمة التي تفضل بها الأستاذ علي فرج لإجراء حوار معكم حول موضوع يشغل بال
الإنسانية جمعاء حاليا وهو موضوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وسبل
مواجهة تداعياتها المتعددة عالميا و وطنيا.
تعيش فعلا الإنسانية منذ السنة الماضية بالخصوص على وقع
أزمة مالية عالمية حادة أدت إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية في عديد من الدول
بمستويات مختلفة.وقد تعددت التحاليل والقراءات لتفسير أسباب وعوامل هذه الأزمة
التي نعتها البعض بأخطر الأزمات المالية والاقتصادية التي عرفتها الإنسانية منذ
الحرب العالمية الأولى و وصفها البعض الآخر بأكبر انحراف للنظام الرأسمالي المهيمن
اليوم في العالم, وتنبأ جمع من المحللين بعواقب وتداعيات اقتصادية واجتماعية
وسياسية أوسع مما انجر عن الأزمة الكبرى التي انطلقت سنة 1929 من نفس القارة ألا وهي الولايات المتحدة
الأمريكية. وأشار البعض الآخر إلى أن التدابير المتتالية للمواجهة والبرامج
المتخذة سوءا في الولايات المتحدة أو في أوروبة أو في الصين كانت سريعة وملائمة
أكثر لحجم الأخطار مما وقع اتخاذه من إجراءات منقوصة ومتأخرة عند انطلاق أزمة سنة 1929 وبالتالي فإن التداعيات ستكون أخف بكثير مما عرفه
العالم والولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص في تلك الفترة العصيبة التي لم تعشها
أجيالنا ولكن قرأنا عنها الكثير.
وستتضمن مداخلتي هذه محاور ثلاث: سيتعلق المحور الأول
بعرض موجز لأهم أسباب الأزمة
و سيخصص المحور الثاني لعرض تسلسل أهم أحداث انطلاق الأزمة ثم للإشارة إلى التدابير
و إلى مساعي التدارك والإصلاح اعتمادا على القرارات المتخذة أو المزمع اتخاذها على
الصعيد الدولي خاصة بعد انعقاد ما سمي بقمة العشرين بواشنطون يوم 15
نوفمبر 2008 ثم
بقمة لندن يوم 2 افريل2009.
وأخيرا سأتعرض في المحور الثالث إلى انعكاسات هذه الأزمة على اقتصاد وطننا والى
السبل التي توختها الحكومة لمواجهتها وللتخفيف من تداعياتها الاقتصادية و
الاجتماعية.
وسأحاول في ختام
هذا اللقاء أن أترك المجال فسيحا لفتح حوار صريح وحر معكم.
أبرز أسباب الأزمة
السبب الأساسي لحدوث الأزمة يكمن في ضعف آليات الرقابة
في السوق المالية بالدول الكبرى وتوسع البنوك الأمريكية في منح القروض.
يعلم الجميع أن ما سمي باتفاقيات " بريتون وودز"
المبرمة في سنة 1946 بعد مفاوضات طويلة -كانت فيها الغلبة للطرف الأمريكي
بعد الدور القيادي الذي قامت به في الحرب العالمية الثانية- وقد أنشأت هذه الاتفاقية الدولية "صندوق
النقد الدولي" و "البنك العالمي" وهما المنظمتان العالميتان التي
أوكل لهما بعد الحرب العالمية الثانية إعادة الاعمار و تنمية الاقتصاد ومساعدة
الدول الأعضاء على تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي وتثبيت سعر الصرف واجتناب
المبالغة في اللجوء إلى عمليات التخفيضات التنافسية للعملات. ولتحقيق هذا الهدف تم
ربط سعر صرف عملات الدول الأعضاء في الصندوق بقيمة ذهبية كما تم تأمين لدى صندوق
النقد الدولي مدخرات من مختلف العملات أضيف إليها في ما بعد ما سمي "بحقوق
السحب الخاصة" و ذلك حتى يقوم الصندوق بدور محوري لمتابعة التوازنات المالية
العامة وموازين المدفوعات الخارجية الجارية للدول الأعضاء مع التدخل السريع لتدارك
الخلل وبالخصوص عند فقدان موازين دولة ما التوازن المالي الهيكلي. ولكن بينت التجربة
على مر السنين أن الصندوق كان غير قادر على فرض آليات التدارك والتصحيح على الدول
الكبرى وخاصة الولايات المتحدة بقدر ما كان صارما وشديدا على بقية الدول. وفي سنة1971 أعلنت الحكومة الأمريكية برئاسة "نكسون" عن
فك ارتباط الدولار بالذهب مع وقف تحويله إلى ذهب ولم يستطع الرئيس الفرنسي "
شارل دي قول"أن يغير شيئا من هذا القرار الفردي والخطير الذي أعطى حرية مطلقة
في مجال العملة للولاية المتحدة. وبهذا القرار يمكن القول أن أهم ركيزة لنظام
"بريتون وودز" قد فقدت فاتحة الباب إلى ما أسميه بسياسة المكيالين في
المجال النقدي والمالي والاقتصادي كما كان هذا القرار فاتحا الباب إلى كل الانحرافات
خاصة في الأسواق المالية للدول الكبرى المهيمنة على صندوق النقد الدولي. وعندما
إنشاء هذا الصندوق كان المؤسسون يعتبرون أن ما تم تأمينه من مدخرات هو كاف لمواجهة
الطلبات المنتظرة على السيولة النقدية خاصة عند حصول عجز في ميزان الدول الأعضاء
ولكن مع ارتفاع حجم المبادلات التجارية الدولية بعد تحرير المبادلات و طفرة العمليات المالية الدولية كان من
الضروري أن تتطور موارد الصندوق وبذلت فعلا محاولات عديدة في هذا الشأن سوءا عبر
زيادة حصة الأعضاء أو عبر استدانة الصندوق بمختلف الأشكال أو عبر بعث سيولة جديدة
"دفدرية" سميت "بحقوق السحب الخاصة" ولكن بالرغم من هذه
الزيادات الموسمية القليلة و مقارنة بالحاجيات بقيت سيولة الصندوق قاصرة على
مواجهة الأزمات الكبرى وأضعفت هذه الوضعية نفوذ الصندوق أمام الدول الكبرى.وعلى كل
فإن مهمة الصندوق بقيت تقتصر على التدخل عند فقدان التوازن في المدفوعات الخارجية
ولا تشمل الخلل في حساب رؤوس الأموال التي كان انتقالها من دولة إلى أخرى عند
إنشاء الصندوق خاضع إلى قيود وضوابط وتراخيص.و مع بداية السبعينيات, وخاصة مع توسع
العولمة الاقتصادية, بدأت الحواجز أمام انتقال رؤوس الأموال تزول وسمحت التطورات
التكنولوجية بتسريع تنقل رؤوس الأموال من مركز مالي إلى مركز آخر بتدفقات هائلة
وبسرعة كبيرة و مفاجئة لا يمكن مراقبتها. وبلغ هكذا حجم هذه الأموال المتنقلة والباحثة
عن ربحية سريعة عبر عمليات مضاربة في عديد
المجالات من شراء أسهم الشركات والسندات والعملات و ما يعرف تحت تسمية "المنتوجات
المالية المشتقة" وغيرها من الإبداعات والابتكارات المالية المعقدة والغامضة..
قلت بلغت هذه الأموال المتنقلة بسرعة أضعاف ما بلغ إليه حجم تجارة السلع والخدمات أو
ما يعبر عنه بالاقتصاد الحقيقي.وهكذا فان صندوق النقد الدولي لم يكن مؤهلا لمثل
هذا الوضع الجديد والأصح هو أن نقول أن الدول الكبرى لم ترد تأهيله حتى الآن للسهر
على متابعة ورقابة ما يجري في أسواقهم وفي السوق المالية العالمية حتى حصلت
الكارثة سنة 2008 .و وقف صندوق النقد الدولي عاجزا متفرجا أمام
تفاقم عجز هيكلي ومزمن للميزان الجاري للولايات المتحدة منذ حوالي عشرين سنة بعد
أن كان ميزانها يمتاز بالوفرة. وأصبحت حاليا بالخصوص الصين بلد الوفرة وهي تمول اليوم عجز الولاية المتحدة و وتمثل مقرضها الأول
مقابل تدفق بضائعها على السوق الأمريكية.وأصبحت بهذه الوضعية كلا الدولتين
العملاقتين رهينا للأخر. وقد دخل العملاق الصيني
إلى السوق العالمية بوفرة بضائعه المنخفضة السعر خاصة بسبب تدني كبير للأجور في
هذا البلد و كان لهذا الدخول تأثير في جل اقتصاديات الدول وبالخصوص في الولايات
المتحدة التي بقبولها لهذا الوضع ضحت بمستوى دخل وبطاقة ادخار طبقتها الوسطى
التي كانت دعامة ازدهار اقتصادها حتى أواخر القرن الماضي
وذلك مقابل توظيف الصين جانبا هاما من فوائضها المالية المتأتية من صادرتاها في
السوق الأمريكية وتمثل هذا التوظيف في شراء الصين سندات الخزينة الأمريكية لتغطية
العجز المتفاقم لميزانها الجاري الخارجي. وعاشت الولايات المتحدة بالخصوص طيلة
العشرية الأخيرة في" وفرة اقتصادية اصطناعية" غذتها طفرة تداين
الطبقة الوسطى ليتواصل عندها نسق النمو.و إن ما سمي " بالقروض العقارية ذات
المخاطر العالية"(السوبرايم)والمتمثل في توسع البنوك الأمريكية بصفة مبالغ
فيها في منح القروض العقارية لفائدة مواطنين ذوي القدرة التسديدية الضعيفة هو مثال
صارخ لهذه الطفرة في الإفراط في الإقراض لدفع الطلب الداخلي بصفة اصطناعية ورفع
نسق النمو في الولايات المتحدة بسبل عير سليمة. وككل وضع اصطناعي وغير سليم يأتي
حتما يوم الانهيار.وما حصل في الولايات المتحدة هو انهيار فضيع كان الإفراط المهول
في اقرض الفئات الضعيفة الدخل بمثابة صفارة الإنذار القوية لانطلاق الأزمة التي
كانت من زمان قد هيئت لها تراكمات
الانحرافات في غياب الرقابة و الضوابط. وبما أن العولمة كثفت تشابك المصالح وبما
أن الاقتصاد الأمريكي كان دائما بحجم طلبات أسواقه منفذا لا يمكن الاستغناء عنه لترويج
منتجات وخدمات دول مثل الصين والهند واليابان وأوروبا أصبح كل انكماش في الاقتصادي
الأمريكي ينتقل بصفة آلية إلى كافة دول العالم وبالخصوص إلى تلك اعتمدت على
التصدير في الأسواق الأمريكية. و قد سمح الحجم الاقتصادي والمالي والسياسي
والعسكري الضخم للولاية المتحدة وسيطرتها على إدارة صندوق النقد الدولي باستمرار
هذا الوضع الغير السليم والغير المتوازن الذي لا تستطيع أي دولة أخرى أن تبقى عليه
عشرات السنين.وهنا تبرز سياسة المكيالين في المجال الاقتصادي والمالي إذ سمح صندوق
النقد الدولي بصمته على تصرفات القطاع المالي للولايات المتحدة وذلك على مدى سنين
عديدة بما لم يكن يسمح به لدولة أخرى وخاصة الدول الصغيرة.
و أما السبب الثاني
الذي يفسر الأزمة يرجع إلى سلوكيات المؤسسات المالية الكبرى وكافة الفاعلين في
السوق المالية العالمية.
إن سلوكيات المسؤولين على المصارف التجارية ومصارف
الأعمال وشركات التأمين وصناديق الادخار على مختلف أنواعها في الدول الكبرى وكذلك
سلوكيات مختلف الوسطاء ومديري الحسابات و مؤسسات وكالات تصنيف المخاطر بالخصوص في
الولايات المتحدة وبقية دول مجموعة الثمانية تمثل سببا محوري في نشوب الأزمة
وتفشيها. وان الجو المفرط في التفاؤل باستمرارية الأرباح السريعة عبر المضاربات والذي وقعت تغذيته من طرف كافة
هؤلاء المفاعلين في غياب الشفافية في الحسابات وفي تركيبة المنتجات المالية مع
انعدام الرقابة الناجعة والضوابط الحكيمة كانت كلها عوامل زادت في حدة الأزمة
وعمقها. يضاف إلى ذلك طغيان الشجع و الإفلات من التراتيب عندما توجد وذلك بالتحايل
بوسائل مختلفة.وهي سلوكيات اعتبرت من طرف البعض نوع من الذكاء وحتى من النبوغ الذي
يمكن من للقيام بعمليات مالية معقدة وضخمة عبر إنشاء مؤسسات فرعية تسجل في مراكز
ما سمي "بالجنات الضريبة" أو "الملاذات الضريبية". وأصبح
اليوم واضحا لدى الجميع أن الأزمة تعمقت بسبب تقصير في الرقابة والمتابعة والتنظيم
في الدول المتقدمة التي كانت تسمح لنفسها بإعطاء دروسا لغيرها في مجال حسن التصرف
المالي . وكانت فوضى ما يسمى "المنتجات المالية المشتقة" أو "
المشتقات" و واقتراض صناديق المضاربة" الهدج فوند" عبارة على مراكز
عمليات مقامرة في "الكازنويات" بمال مودع في المصارف العملاقة و قد أدى
كل ذلك في النهاية إلى انفجار فقاعة الاقتراض والتسليف المفرط خاصة في المجال
العقاري لضعفاء الدخل وهو ما سمي "بالسوبرايم".وقد أقدمت مؤسسات القرض
الأمريكية على استعمال مفرط لآلية التسنيد للقروض العقارية عالية المخاطر وأحدثت في هذا السبيل أدوات مالية مركبة ومعقدة
وغير شفافة وأعطت لها صيغة سندات ممثلة للقروض العقارية المذكورة وغيرها من القروض
العالية المخاطر.ثم وقع ترويج كميات كبيرة من هذه المنتجة المالية في الأسواق
العالمية وخاصة في الدول الأوروبية. أما بقية هذه المنتجات فقد احتفظت بها البنوك
الأمريكية في شكل أصول في محافظ استثمارية مختصة سعيا إلى إبراز في حسابات آخر
السنة مردودية عالية دون التقييد بالحذر الضروري والمعهود في إدارة المخاطر. ويكمن السبب الثالث
للأزمة قي السياسة النقدية التي مكنت هذا الاقتراض المفرط وهذا التوسع في عمليات
المضاربة.
فعلى مدى فترة طويلة- من 1987الى
2007 -انتهج البنك المركزي الأمريكي سياسة نقدية مكنت
الولايات المتحدة من الاستمرار في الإنفاق بما يفوق إنتاجها و في العيش باستعمال
مدخرات الدول الأخرى وكانت سهولة الاقتراض لضعاف الحال و انخفاض نسبة الفائدة قد غذت جو مفرط التفاؤل في الاستثمار العقاري
بالخصوص في ضل تصور مخطئ يعتمد على مواصلة ارتفاع قيمة العقارات عند البيع . ولما
ارتفعت نسبة الفائدة وأصبح عدد كبير من المقترضين عاجزين على تسديد أقساط الديون
التي حل اجل دفعها بدأت المشاكل وبدأ البنيان المالي الضخم والهش في نفس الوقت
يتزعزع وخاصة أن ذلك تزامن مع توغل سوق بورصة "وول ستريت" في مستنقع
الاستثمارات المالية المسمومة من مشتقات وغيرها من المنتجات المالية والسندات التي
تسربت عدواها إلى بقية البورصات الكبرى في الدول الأخرى وهي مترابطة باستمرار عبر "الانترنت" مع
"وول ستريت" ومع كبريات البورصات. وكانت وكالات الترقيم و التصنيف تعطي
لهذه الرقاع والمنتجات المالية المتنوعة تصنيفا عاليا وايجابيا يشجع البنوك ومختلف
الصناديق الاستثمارية على مزيد الإقبال عليها.
و انطلقت الأزمة المالية أساسا بسبب توسع غير مسبوق من
طرف البنوك الأمريكية وغيرها من المؤسسات المالية والوسطاء الماليين –بمرأى ومسمع
من البنك المركزي الأمريكي- وذلك بصفة خيالية وغير مسؤولة في منح قروض لمواطنين
ذوي قدرة تسديدية ضعيفة وهو ما سمي بالقروض ذات المخاطرة الكبيرة التي منحت إلى
عدد ضخم من فئات ضعيفة الدخل بنسب فائدة متغيرة كانت ضعيفة ومغرية ولا تفوق الواحد
في المئة في بادي الأمر وخاصة في سنة 2001 و2002ولكن لما اضطر البنك المركزي الأمريكي إلى رفع سعر
الفائدة المرجعية في سنة 2006 إلى أكثر من 5
في المئة ارتفعت تبعا لذلك خدمة الدين وعجز عدد متزايد من المتحصلين على القروض
العقارية عن تسديد قروضهم وتكاثر عدد العقارات المعروضة للبيع حتى فاقت بكثير
الطلب وانخفضت أسعار العقارات التي أصبحت تباع بالمزاد العلني وتفشي هذا الوضع إلى
درجة أصبح فيها من أبرز مصادر توسع انعدام الثقة وبروز أولى الإضطرابات المالية في
أمربكة وأسبانية وبريطانية ثم استفحلت
الأزمة وانتشرت بسرعة الأنترنات وانتقلت من القطاع العقاري إلى القطاع المالي ثم إلى شركات التأمين ثم إلى القطاع المنتج و القطاع الاقتصادي بصفة عامة
و مرت الأزمة بعدة مراحل أختصرها في مراحل ثلاث أساسية:
-المرحلة الأولى: يمكن اعتبارها ذات طابع مالي صرف وانطلقت في سبتنبر 2007لتتوسع عبر المبالغة في استعمال والتداول بين البنوك
المنتوجات والسندات المالية المعقدة وغير الشفافة
والتي تتضمن جانبا كبيرا من القروض
الغير قابلة للاسترجاع حتى آلت الأوضاع إلى إفلاس بنك الاستثمار " ليمون
بروذرز" وتلتها بنوك عملاقة أخرى مثل " ميريل لنش" و
" سيتي قروب" " وبنك أف أميريك" وأدى ذلك
بالطبع إلى فقدان الثقة في التعامل بين البنوك مما أدى إلى نقص حاد في السيولة
المالية وانتشرت مثل هذه الأوضاع في البنوك البريطانية ثم في البنوك الأوروبية
الكبرى. وقدرت في هده المرحلة الخسائر المسجلة في مجموع هذه البنوك بحوالي 2200 مليار دولار.
-وأما المرحلة الثانية للأزمة
فيمكن حصر انطلاقها خلال الثلاثية الأخيرة من سنة 2008
وقد شملت مختلف البورصات وأسواق رأس المال والصرف لتتسرب إلى قطاع الإنتاج أو ما
يسمى بالاقتصاد الحقيقي في ضل تعطل الحركة الطبيعية لتمويل المؤسسات المنتجة وتنقل
السيولة المالية بين البنوك وهو ما يسمى " يالكريدي كرنش". أي تعطيل
عمليات منح القروض للمؤسسات الذي يؤدي إلى ركود الاقتصاد.
وأما المرحلة الثالثة للازمة فهي تكمن حاليا في انتشار الأزمة وكافة تداعياتها
الاقتصادية والاجتماعية بدرجات متفاوتة في جميع البلدان بما فيها البلدان الصاعدة
التي ستتحمل هذه التداعيات دون أن تكون سببا في اندلاع الأزمة. وقد توسعت الأزمة
عبر الترابط الوثيق بين القطاع المالي والقطاعي الاقتصادي المنتج.وأدى انكماش عدد
من القطاعات الاقتصادية منها بالخصوص قطاع صناعة السيارات والنسيج والفولاذ
والسياحة إلى ملابسات اجتماعية وارتفاع في نسب البطالة وتقدر منظمة العمل
الدولية ارتفاع حجم البطالة الإضافية إلى 50
مليون عاطل عن العمل في العالم سنة 2009
كما يتوقع أن تتراجع نسبة النمو العالمي
خلال نفس السنة وتصبح سلبية وذلك لأول مرة منذ 6
عقود وأن تنخفض المبادلات التجارية الدولية بنسبة قدرت بحوالي 9في
المئة .وفي ما يخص البلدان المتقدمة يتوقع أن يتراجع إجمالي الناتج المحلي ب2,6 في المئة في
الولايات المتحدة وب5,8 في المئة في اليابان وب3,2 في المئة في منطقة الأورو.
ولاجتناب دخول الاقتصاد العالمي في فترة طويلة من تراجع
نسبة النمو وتفاقم البطالة هرولت السلطات النقدية والبنوك المركزية في الدول
الكبرى إلى استعمال بالخصوص آليات ضخ السيولة مع تخفيض نسب الفائدة المرجعية
وإقرار برامج تدخل الدولة لدفع الاقتصاد
حسب تشخيص وضع كل بلد.
أختم هذا المحور من مداخلتي بالإشارة إلى أن جل الأزمات
الكبرى المالية والاقتصادية التي عاشتها الإنسانية بما في ذلك الأزمة الحالية كانت
لها نفس الأسباب الأساسية المتمثلة في ارتفاع غير منطقي للمضاربات على الأسهم و
الرقاع والسندات و غيرها من المنتجات المالية
المتداولة في البورصات وهو ارتفاع لا يكون دوما مبرر بمؤشرات موضوعية وأسس الاقتصاد
الحقيقي وذلك إضافة إلى تواجد تداين مفرط من طرف الدول والبنوك والمؤسسات وكذلك
الأشخاص مقترن بضعف الادخار.
المحور الثاني.
تسلسل أهم أحداث الأزمة المالية العالمية وسبل التدارك المتخذة على الصعيد
العالمي
.لقد بانت للعيان بوادر الأزمة, حسب تصوري, منذ الأشهر الأخيرة
لسنة 2007 حيث بدأت أسعار العقارات وعدد من الأسهم
والسندات والأوراق المالية في الولايات المتحدة في انخفاض غير مسبوق سيتواصل ثم
ستزداد حدة هذا الانخفاض طيلة سنة 2008 وبدأت المصارف تتفطن إلى الأخطار التي تحوم حول السندات و المشتقات المالية المسمومة وخاصة تلك
التي تتضمن قروض عقارية.
وبرز للعيان في بداية سنة 2008تكاثر
عدم خلاص القروض العقارية وأفلست أول مؤسسة مختصة في القرض العقاري وأعلنت وكالة
الأخبار المختصة في الاقتصاد "بلومنبرك" أن حجم التأخر في استرجاع قروض السكن من النوع
الأقل مخاطرة والمصنف ب"ألت-أ" قد بلغ 16
في المئة من المجموع وان 14
في المئة من المواطنين الأمريكان أصبحوا يشتكون من صعوبات في تسديد أقساط القروض
التي حل أجلها.و بدأ المواطنون المتفطنون يبيعون البعض من الأصول التي يملكونها
بحثا عن السيولة الاحتياطية وهكذا تحول جو التفاؤل المفرط تدريجيا وتحث تأثير
العوامل النفسية إلى بداية التشاؤم الذي سيبلغ ذروته في صيف سنة 2008
حيث تحول الخوف إلى الهلع. وفي شهر فيفري من سنة 2007 وقع
تطبيق القواعد الجديدة لضبط القوائم المالية للمؤسسات الاقتصادية والمصارف وهي
قواعد تفرض احتساب قيمة الأصول على أساس
سعرها في السوق ولا على أساس ثمن شرائها كما كان معمول به في السابق. وشعرت البنوك
أن مهما اتخذت من سبل للتخلص من القروض التي حولتها إلى سندات مالية لبيعها فهي تبقى تتحمل جزاء هاما من مخاطرها.وفي شهر جوان سنة 2007 أعلن بنك الاستثمار " بير ستيرن" تجميد صندوقان
من نوع " الهدج فوند" (صناديق الاستثمار والمضاربة بالاقتراض لدى
البنوك) كانا قد بالغا في الاستثمار في القروض العقارية. وفي شهر أوت من نفس السنة بدأ مسلسل حجز العقارات لبيعها يتضاعف
مما زاد في نسق انخفاض قيمة الأصول وخاصة منها المرتبطة بالسندات المتضمنة لأجزاء من القروض العقارية. وبدأ المختصون
يكتشفون أن الأزمة المالية القادمة سوف لا تقتصر على الولايات المتحدة لان القروض
العقارية قد وقع إدماج حجم كبير منها ضمن سندات مالية بيعت لكافة المصارف الكبرى
في العالم بدون أن تكون مخاطرها واضحة بالنسبة لمن اقتناها. و طلب خامس بنك
بريطاني " النورترن روك" في شهر سبتمبر معونة البنك المركزي البريطاني
بعد أن نزلت قيمة سهمه في البورصة بحولي 72
في المئة. وفي نفس اليوم يصرح الأستاذ المختص
في الاقتصاد " نوريال روبيني" مشيرا إلى جسامة مخاطر إفراط الاقتراض للاستهلاك
الخاص في الولايات المتحدة قائلا: "ما دام مسكن كل مواطن هو عبارة على موسع أوراق نقدية سيتواصل ارتفاع
الاستهلاك الخاص بدون أن يكون ذلك مرتبط بواقع الاقتصاد وستحصل الكارثة".
وفي الوقت الذي كان فيه محافظ البنك المركزي البريطاني مازال يتساءل عن الخطة التي
يتعين اختيارها كان زميله " بن برناك" محافظ البنك المركزي الأمريكي
يعتبر بدون أي تردد أن عليه أن يواصل دعم النمو واجتناب الركود ولاكن إلى أين؟ و
في نفس الوقت كان محافظ البنك المركزي الأوروبي أكثر جرأة إذ انه أقر إعانة البنوك
التي كانت في حاجة إلى سيولة مالية وذلك بقبول
سنداتها مقابل تمكينها من السيولة و سينسج زميله " بن برناك" الأمريكي على منواله ولكن
بتأخر. وفي أول اكتوبر2007 أعلن البنكان " أو ب س و " سيتي قروب" عن
انخفاضا كبيرا في الأصول التي تملكها و المرتبطة بالقروض العقارية ذات المخاطرة
العالية و يوم 8 اكتوبر 2007 صرح
الاقتصادي " جورج مقنوس" لجريدة " الفينسيال تايمز" " ان
السيولة البنكية في خطر وان منهج التخفيض من الإقراض في بدايته"..
وفي جانفي سنة 2008 أجبرت المؤسسات المالية المكبلة بالأصول المسمومة إلى
رفع حجم اقتراضها من السوق المالية والى الزيادة في أموالها الذاتية والى
الاستغاثة بالصناديق السيادية التابعة لدول الوفرة المالية منها بالطبع الدول
الخليجية و دولة سنغفورة و الصين وكانت الضرورة قد أجبرتهم قبول ولو مكرهين مساهمة
هذه الصناديق السيادية في راس المال عدد من البنوك الكبرى. وكان تسارع الأحداث
البارزة قد ازداد حدة عندما تبين أنه أصبح من المؤكد أن القروض العقارية ذات
الجدارة الائتمانية الضعيفة أصبحت غير قابلة للاسترجاع . وحيث أن هذه القروض قد تم
تسويقها إلى عدد كبير من المؤسسات المالية في شكل سندات مالية غامضة ومعقدة أصبحت
مشكلة هذه القروض تهدد الأوضاع المالية لعدد ضخم من المؤسسات الأمريكية وغيرها من
المؤسسات في عدد كبير من دول العالم التي تتعامل بكثافة مع المؤسسات المالية
الأمريكية.ومع بداية سنة 2008 برزت الخسائر
الكبيرة التي تكبدتها كبرى المصارف مثل مجموعة "ستي بنك" ومجموعة "
ميريل لنش" وغيرها من كبريات البنوك. كما لوحظ بأن العدوة بدأت تصل إلى
أوروبا و بريطانية بالخصوص على اثر تعرض مصرف "نورثرن روك" البريطاني إلى
إشكال كبير اجبر السلطات البريطانية إلى التدخل لإنقاذه من الإفلاس وذلك من خلال
تأميمه وامتلاكه.و تفاقمت مشاكل البنوك ولم تستطع مؤسسات مالية عديدة من الصمود
وانهار بنك " استيرنز" الأمريكي مما اجبر السلطات الأمريكية لإعاز إلى
مؤسسة استثمارية أخرى ( ج ب مورقن) لإنقاذه. واستمر مسلسل التعثر لمؤسسات مالية
كبيرة الواحدة تلوى الأخرى بدءا بأكبر وكالتين أمريكتين مختصتين في تمويل بناء
السكن" فاني مي " و "فريدي ماك" مرورا بإفلاس المصرف العملاق
"ليمون براذرز" .وبعد بضعة أيام فقط من هذا الافلاس طلبت النجدة أكبر
مؤسسة تأمين أمريكية "أ ي ج"
وكانت السلطات مجبورة على إنقاذها من الانهيار. واعترفت" أ ي ج" أن
العمليات التي أقدمت عليها أدارتها المالية -التي كانت بمثابة بنك استثمار غير
خاضع لرقابة البنك المركزي- قد توغلت كثيرا في السندات العقارية وأصبحت شبه
القنبلة الموقوتة.وفي سبتمبر 2008 أجبر كاتب
الدولة للمالية في حكومة بوش على تأميم " أ ي ج" أكبر مؤسسة تأمين . ويمكن اعتبار شهر سبتمبر 2008 شهرا اسود بالنسبة للنظام المالي الأمريكي. وساد على اثر هذه الأحداث المتتالية كثير من الذعر
والهلع في الأوساط المالية وفي أوساط
المستثمرين في جل الدول الكبرى مما دفع عدد متزايد منهم إلى بيع ما يملكون من أسهم
فيما تبقى من المؤسسات بصرف النظر عن وضعها الحقيقي. وتسبب هذا الهلع في تعرض أسهم
المؤسسات السليمة إلى انخفاض قيمتها نتيجة وفرة عروض البيع في البورصة مقابل تقلص طلب الشراء .وأصبحت حكومة بوش وهي في سنتها
الأخيرة مجبورة بتقديم برنامج عملاق قدره 700 مليار من الدولارات للبرلمان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. و
وضع البنك المركزي الأمريكي بتأخير كبير تسهيلات لمساندة البنوك وتمكينها من
السيولة المالية وأعلنت الخزينة الأمريكية ضمانها للأموال المودعة في كافة
الصناديق والمصارف لاجتناب مزيد من الهلع وخاصة لاجتناب هرولة كافة المواطنين لسحب
أمولهم من البنوك. وصادق البرلمان يوم 6
اكتوبر 2008 والهلع في ازدياد على برنامج الإنقاذ بعد نقاش حاد
وبالرغم عن عديد نقط الاستفهام التي بقيت بدون جواب نظرا لتعقد الأوضاع وغموض شروط
تنفيذ البرنامج المستعجل وذلك بعد أن كان قد رفض يوم 29سبتمبر2008 برنامجا أول. وعلى المستوى العالمي اتفقت كبار البنوك
المركزية على تخفيض سعر الفائدة المرجعية لإعادة تمويل البنوك ومدها بالسيولة
الضرورية لمجابهة الأوضاع واجتناب ما حصل في سنة 1929
من هرولة المواطنين لسحب ودائعهم من البنوك و واجتناب قدر الإمكان تجميد عمليات
الإقراض الضرورية للحركة الاقتصادية ولنشاط القطاع المنتج. وبدأت التقارير المتتالية لصندوق النقد الدولي وللبنك العالمي
تنبه إلى خطورة الوضع والي تسرب الأزمة المالية إلى القطاع الاقتصادي وتتالت
التنبؤات بانخفاض معدل النمو العالمي لسنة
2009 كما تتالت التنبؤات بنسب نمو سلبية في كل من أمريكة
وأوروبا مع انخفاض في نسب نمؤ جميع بلدان العالم.
يوم 7 اكتوبر 2008
قدر صندوق النقد الدولي مجموع الخسائر العالمية ب14000مليار
دولار بعد أن أعلن على تقديرات أولية في حدود 9000
مليار دولار. وبعد اشهر قليلة جاءت التقارير بتعديلات تقر بحصول انكماش اقتصادي في
الولاية المتحدة و في أوروبا. وأمام تفاقم الأزمة وتصاعد الانتقادات العنيفة على
سوء إدارة السوق المالية العالمية وكبريات المؤسسات المالية وكبريات البورصات كان
لا مناص من جمع الدول التي تمثل قرابة 85
في المئة من الاقتصاد العالمي وهي ما سمي"بمجموعة العشرين" دولة التي
اتفق الرئيس بوش والرئيس الفرنسي بصفته
رئيس الاتحاد الأوروبي لدعوتها للاجتماع في واشنطون.
وفي يوم 9
نوفنبر 2008 اجتمع وزراء المالية لمجموعة العشرين لإعداد قمة
العشرين وأعلن في هذا الاجتماع ممثل الصين عن تخوفاته من انحسار النمو حتى في بلده
وعدم استطاعة الصين على خلق الثلاثون
مليون موطن شغل ضرورية لسنة 2009
واتفق وزراء
المالية في اليوم الموالي على تقديم مقترحات إصلاح للقمة العشرين تغطي خمس مجلات
هي:
1-توسيع وتنسيق مجالات الرقابة على كافة الفاعلين في
السوق المالية بما في ذلك صناديق" الهدج فوند" وهي صناديق مشهورة بكثافة
عمليات المضاربة وذلك لا فقط بأموالها الخاصة بل باقتراض من البنوك يبلغ أحيانا
عشرة أضعاف أموالها الذاتية.
2-مراقبة وكالات تصنيف مخاطر المنتجات المالية التي
أخطأت في تصنيف السندات،
3-تنسيق القواعد والمواصفات لضبط الحسابات والقوائم
المالية,
4-تحجير التعامل مع المناطق المالية المسماة بالمراكز الخارجية و"بالجنات
الجبائية" أو " الملاذات الجبائية" التي ترفض التعاون.
5- وأخيرا تكليف صندوق النقد الدولي بتعبئة الموارد
الضرورية لإرجاع الثقة في القطاع المالي.
واجتمعت قمة العشرين دولة في واشنطون يوم 15 نوفمبر 2008 للتشاور حول أوضاع السوق المالية وتدهورها وما تفرضه من
تعاون و من إجراءات مشتركة عاجلة وآجلة لإصلاح النظام المالي العالمي ومحاولة إنقاذه وللتخفيف من تداعيات الأزمة
المالية على نسق نمو الاقتصاد وعلى تفاقم البطالة. وكان البعض يتصور أنها ستكون
قمة تاريخية تؤسس فعلا لنظام مالي جديد أمام جسامة المخاطر وسكون الولايات المتحدة
مجبورة بقبول الإصلاحات الحتمية لرقابة الأسواق المالية وهي إجراءات تهربت منها
حتى الآن. في حين كان البعض الآخر متشائما نظرا بالخصوص لعدم حضور الرئيس الأمريكي
الجديد "أوبما" الذي لم يتسلم بعد مقاليد المسؤولية..فكيف كانت
قرارات قمة 15 نوفمبر2008؟
بالرجوع إلى البلاغ الرسمي الذي صدر عن القمة نجد أن هذه
المجموعة اعترفت رسميا بان الأسباب الأساسية للأزمة تكمن في أن الفاعلين في الأسواق
المالية حرصوا على تحقيق مرودية مرتفعة لاستثماراتهم بدون تقييم سليم للمخاطر
وبدون الحذر المهني المفروض كما اعترفوا بان المؤسسات المالية لم تنفذ المناهج
السليمة في التصرف بالمخاطر في الوقت الذي أصبحت فيه المنتجات المالية المبتكرة
معقدة وغامضة وأصبح الإقراض من اجل اقتنائها مبالغ فيه.وأصبحت الهياكل المهنية
المكلفة بسن الضوابط و وكالات التصنيف غير قادرة أو حتى متواطئة في عمليات تقييم السندات
وتصنيفها ولم تنبه مسبقا الى المخاطر التي تفاقمت في الأسواق المالية كما اصبحت
وكالات التصنيف غير قادرة على متابعة نسق تعقد ما سمي "بالابتكارات المالية
الجديدة" و المنتجات "الصناعة المالية". كما اعترفت مجموعة العشرين
بأن السياسات المالية والاقتصادية كانت غير سليمة وغير منسقة ومتضاربة وان نقص
الضوابط أدى إلى الإفراط في المخاطرة حتى أحدث اختلال كبير وغير مسبوق في الأسواق. وأمام تفاقم الأوضاع تعددت الأصوات التي أصبحت
تلح على التعجيل بالإصلاح وبالتدارك العاجل وبوضع السوق المالية العالمية تحت
رقابة جدية. وقد نادى الرئيس زين العابدين
بن على المنتظم الدولي في خطابه الموجه لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية
المجتمعين في تونس في نوفمبر 2008 بضرورة
التحرك السريع قصد صياغة " مدونة سلوك" في شكل اتفاقية دولية
تلتزم بها جميع الجهات الرقابية بهدف تأطير طرق عمل الجهاز المالي والأدوات المالية التي يستعملها هذا الجهاز والسعي الحثيث لتحقيق " الملاءمة بين القطاعين المالي
والاقتصاد الحقيقي" ويضيف رئيس الجمهورية التونسية موضحا مقترحه و واضعا
النقط على الحروف:" ومن أهم المبادئ التي يجدر أن تتضمنها هذه المدونة توثيق العلاقة بين القطاع المالي و
القطاع الحقيقي وضمان استمراريتها و وضع معايير أكثر حزما لإدارة المخاطر وتقييمها
وتاطير التعامل بالمنتجات المالية المعقدة من طرف هيئات مختصة."
وقد أصبح واضحا لدى الجميع مع نهاية سنة 2008 أن الأزمة المالية سوف تنتقل إلى أزمة اقتصادية
واجتماعية حادة.وتبنت قمة العشرين في اجتماعها الأول يوم 15
نوفنبر 2008 الخطوط العامة للمقترحات الأولية التي قدمها وزراء
المالية ومحافظي البنوك المركزية و أوكلوا إليهم مواصلة العمل وتقديم مقترحات
عملية ومفصلة قابلة للتنفيذ لاجتماع قمة ثانية تلتئم في لندن يوم 2
أفريل 2009.. و توجهت كل الأنظار إلى قمة لندن المنتظرة التي
اعتبرت من عدد من المحللين إنها ربما تكون حاسمة لمعالجة جذرية للأزمة مع حضور
الرئيس الجديد للولايات المتحدة.
اجتماع قمة العشرين بلندن.
وفي اجتماعها بمدينة لندن يوم 2 أفريل 2009 أصدرت قمة العشرين بيانا مشتركا بعنوان يريد التعبير عن طموح كبير يطمئن
العالم وكان هذا العنوان الفخم " نحو إرساء نظام عالمي جديد" و
يتضمن هذا البيان ما لا يقل على 28
بندا أو قرار يمكن تقسيمها إلى مجموعتين من القرارات:
1-قرارات تتعلق بتعبئة موارد مالية إضافية بالنسبة
للتي وقع تخصيصها قبل اجتماع القمة "لدفع الاقتصاد وإصلاح وضعية البنوك"
سواء في الولايات المتحدة أوفي دول الاتحاد الأوروبي أو في الصين وكان قد بلغ
مجموع برامج الدفع قبل القمة ما يقرب ال 5000
مليار دولار.أضافت إليها القمة مبلغ قدره 1100 مليار دولار منها 700 مليار دولار لفائدة صندوق النقد
الدولي و 100 مليار دولار لدفع المبادلات التجارية الدولية
والبقية لفائدة بنوك التنمية.
2-وقرارات تتعلق بالضوابط التي يتعين سنها لتوسيع
الرقابة على مختلف المتدخلين في القطاع المالي العالمي وإدخال بعض الإصلاحات على
المؤسسات المالية الدولية منها بالخصوص صندوق النقد الدولي لإكسابها أفضل تمثيلية
وتوسيع مشمولاتها في المتابعة و الرقابية. كما شملت هذه القرارات تحويل "
المنتدى للاستقرار المالي" الى "مجلس عالمي للاستقرار المالي"
سيتعاون مع صندوق النقد الدولي وستفتح عضويته
إلى كافة دول مجموعة العشرين.
.
وكانت التعاليق والتحاليل بعد صدور البيان المشترك للقمة
-و بالرغم من التفاؤل والابتهاج المعلن من
طرف جميع المشاركين- تتأرجح بين من يعتبر القمة توفقت إلى قرارات ملائمة للأوضاع
العالمية وتؤسس فعلا لنظام جديد فيه أكثر تنظيم يحمي من الأزمات الكبرى وبين من
يعتبر أن القمة حاولت أساسا إرجاع الثقة بإجماع ظاهري حول قرارات عامة يتطلب تنفيذها سنة عمل أو أكثر وهي غير كافية
لمعالجة الأسباب الهيكلية للازمة وغير
كافية خاصة بالنسبة لحاجيات بقية الدول الغير ممثلة في مجموعة العشرين وبالخصوص
الدول الأفريقية الفقيرة بالرغم من حضور القمة من مثل منظمة الاتحاد الإفريقي وقدم
تقريرا خاصا بحاجيات القارة الإفريقية يوما
قبل انعقاد القمة. وهنالك من أشار إلى ما
أعتبره "خطوة عملاقة" قطعت في سبيل مزيد من الشرعية بتعويض قمة الثمانية
التي احتكرت في الماضي قيادة اقتصاد العالم
بقمة العشرين التي تمثل 85 في المئة من اقتصاد العالم و60
في المئة من البشرية. وهنالك من أعتبر أن
قرارات القمة زادت في تهميش منظمة الأم المتحدة إذ أنه كان عليها أن تعرض
مقترحاتها على مناقشة الجمعية العامة للأمم المتحدة الممثلة فيها جميع الدول العالم. هذا مع الإشارة إلى أن الجمعية العامة
للأمم المتحدة أقرت بعد أيام من انعقاد قمة العشرين أن تعقد جلسة خاصة من 1
الى 3 جوان المقبل بنيويورك تخصصها لمناقشة الأزمة العالمية
ويكون التقرير النهائي للجنة الخبراء التي يترأ سها " سيقليتس" من
الوثائق الأساسية التي تناقشها الجلسة
العامة الخاصة .
وبالرجوع إلى قراءة كامل نص البيان المشترك المطول
الصادر عن قمة العشرين يجد المحلل الموضوعي أن كل ما ورد فيه يعد ايجابي لمواجهة
الأوضاع الحالية على المدى القصير خاصة في الدول الكبرى ولمحاولة إرجاع شيئا من
الثقة في الأسواق المالية كما يجد أن هنالك تحول هام في موقف الولايات المتحدة
التي أصبحت لأول مرة منذ عهد الرئيس "ريقن" تقبل بمبدأ توسيع الرقابة
على السوق المالية و على مختلف المتدخلين فيها. ولكن يبقى الأمر بالنسبة للمدى
المتوسط والبعيد رهين التطبيق الفعلي لعدد وافر من القرارات العامة التي يتعين
تحوليها إلى إجراءات عملية وتطبيقية ناجعة و رهين معالجة جذرية للأسباب الهيكلية
التي ساهمت في استفحال الأزمة. وهذه الأسباب العميقة متواجدة حاليا بالخصوص في
السياسات المتبعة من طرف العملاقين وهما الصين والولايات المتحدة ومن هذه الأسباب
الهيكلية أذكر مواصلة استفحال التداين الأمريكي من جهة وعدم وجود نظام تغطية اجتماعية
ملائم في الصين وعدم تطوير الطلب الداخلي الصيني بالقدر الكافي واستمرارية
الاعتماد الأساسي على دفع تنميتها بتصدير
منتجاتها بأسعار أحيانا لا تغطي عسر الكلفة.و كل ذلك مع الإشارة إلى أن السبل
المعتمدة حتى الآن لمواجهة الأزمة تتمثل بالخصوص في الزيادة في التداين سوءا في
أوروبى أو في الولايات المتحدة. مما جعل البعض يتساءل عن صيغ توفير المبالغ
الهائلة المعلن عنها في برامج دفع
الاقتصاد بالولايات المتحدة وعن انعكاساتها على المدى المتوسط خصوصا في مجال تضخم
الأسعار وعن التقلبات المستقبلية التي يمكن أن تهدد أسعار الصرف خاصة بالنسبة
للدولار.
أختم هذا المحور
الثاني من مداخلتي بملاحظة أخيرة تتعلق بعدم التعرض في البيان المشترك إلى موضوع
أعتبره جوهري ألا وهو التمشي الضروري ولو بتدرج نحو توسيع التعامل بعملة عالمية
موحدة للمبادلات التجارية. ( مثل حقوق السحب لصندوق النقد الدولي بعد تحوير صيغة إصدارها) حتى نخفف على العالم البعض من تداعيات الدولار. لقد وقعت إثارة هذا الموضوع باحتشام في قمة
العشرين من طرف الدول الصاعدة وخصوصا من طرف الصين التي أصبحت تخشى من تأثير إنخفاضات
محتملة لسعر الدولار الذي يمثل القسط الكبير من مدخراتها من العملة الأجنبية(
حوالي2000مليار دولار) بالرغم من اتجاهها المتزايد نحو الأورو
واليان.ولكن كان رفض الولايات المتحدة قويا لهذا المقترح ولم يأتي أي تأييد لهذا
المقترح الأساسي من طرف الاتحاد الأوروبي. و يبقى إذا هذا الموضوع الجوهري بالنسبة
للمستقبل وهو يهم في اعتقادي بلدان مثل تونس وكافة البلدان الصاعدة وخاصة النامية
ومنها عدد كبير من الدول الأفريقية.و بصفة عامة يمكن القول بأن القمة التي كانت
منتظرة لتأسيس نظام مالي ونقدي جديد يتلاءم مع متطلبات العولمة وحاجيات الدول
الصاعدة والنامية قد خيبت الآمال بدو أن تضمن الخروج السريع من الأزمة وبدون أن
تتفق بوضوح عن جزئيات استئصال كافة أسبابها الهيكلية. وفوتت كذلك القمة
على نفسها فرصة تاريخية لتوظيف تمويل عالمي ملائم للصندوق التضامن الدولي الذي كان
الفضل للرئيس زين العابدين بن على في بعثه للوجود سنة 2002ثم
اقترح الرئيس بن علي منذ اندلاع بوادر الأزمة على المنتظم الدولي تمويله بتوظيف
دولار واحد على تصدير كل برميل نفط. والعالم اليوم في حاجة متأكدة لمثل هذا
الصندوق.
وبقي هكذا إذا الموضوع الأساسي ألا وهو موضوع الإصلاح
الجوهري والجذري للنظام النقدي والمالي العالمي موضوعا مفتوحا ينتظر إجماعا
قويا من طرف كافة الدول لم يتحقق هذا الاجماع حتى في أوجى الأزمة. فهل سيتجسم هذا
الإجماع المنشود في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في جوان المقبل أو في
الاجتماع الثالث لقمة العشرين في سبتمبر القادم.؟ المستقبل وحده يستطيع الإجابة عن
هذا التساؤل....
المحور الثالث
الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التونسية وخطة منقوصة لمواجهة الاوضاع التونسية
لقد أبرزت
الأزمة العالمية الحالية السلامة النسبية للخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي
توفقت إليها بلادنا فبقدر ما اعتمد منوال التنمية الذي أقرته الحكومة التوجه التحرري مع تعزيز الحوافز لدفع
المبادرات الخاصة والاعتماد على آليات السوق بقدر ما حرص على اجتناب التحرير
العشوائي والاعتماد المطلق على تقلبات الأسواق دون ضوابط ودون توخي, كل ما اقتضى
الحال, أدوات تعديل وتحكم ملائمة للأوضاع. ويلاحظ الجميع أن المقاربة الاقتصادية التي أعتمدت
تتميز دوما بالاعتدال والتدرج في مراحل الإصلاح و مراحل التفتح على السوق العالمية
مع الحرص الدءوب على توظيف النمو الاقتصادي لتحسين مستويات العيش مع الملائمة بين
مختلف الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية بالإضافة إلى توخي الاعتدال في السياسة
النقدية و في سعر الصرف.وكان حرص الحكومة على سلامة عمليات القطاع المصرفي التونسي
متواصلا بعيدا عن المضاربات وعن البحث عن الربح السريع. واعتمدت تونس في ما يتعلق
بنسق ومستوى التحرير المالي الخارجي منهجا حذرا أعطى الأولوية لتحرير العمليات
الجارية التي من شأنها تسهيل وتوسيع نشاط المؤسسات الاقتصادية المنتجة البضائع
والخدمات وتحفيز الاستثمارات الخارجية المباشرة الباعثة لموطن الشغل الجديدة مع
توخي التدرج والحذر بخصوص ما يسمى "باستثمارات المحفظة" في البورصة
وعمليات رأس المال الأخرى المتصفة بعدم الاستقرار والمضاربة. وتعاملت
بلادنا مع هذه الأزمة العالمية بالاعتماد على خبرتها وتجاربها وكذلك على استباق
الإحداث والتحرك في الوقت المناسب قصد الحد قدر الإمكان من تداعيات الأزمة على نسق
النمو والعمل في إطار الثوابت التي اعتمدناها وبالخصوص الحرص المتواصل على الملاءمة
بين مقتضيات البعدين الاقتصادي والاجتماعي من ناحية وبين متطلبات الأمد القصير والمتوسط والبعيد من
ناحية ثانية....و لكن مع الأسف بقي التخطيط لتحقيق تنمية الجهات الداخلية و الجنوب
منقوص و لم ينفذ ما أوصيت به في المخطط السابع في مجال التنمية الجيهاوية... واقرت
الحكومة لمواجهة ألازمة منوال تنموي في
بلادنا يرتكز إجمالا على الواقعية والحذر ويواصل مجهود دفع وتنويع التصدير بالرغم
من الانكماش الحاصل في الطلب العالمي ويحاول أن يبقى نسق النمو ايجابيا في سنة 2009 مع الحفاظ على
التوازنات العامة الداخلية والخارجية وذلك بمواصلة تغذية الطلب الداخلي بنسب
معقولة والاعتماد على مجهود استثماري إضافي بالخصوص في مستوى البنية الأساسية. ولكني
اعتقد ان هذا المجهود سيبقى غير كافي لأنه وقع تأخر كبير في تنويع القطاع الصناعي و
الرفع من القيمة المضافة للمنتجات الصناعية التونسية مع نقائص عديدة في مجال
التنمية الفلاحية..............
فمنذ البوادر الأولى من الأزمة وتحديدا منذ نهاية سنة 2007 احدث البنك
المركزي التونسي خلية يقظة لاتخاذ الإجراءات والتدابير ذات الطابع الوقائي التي تمثلت
نظريا بالخصوص في:
1- تأمين الاحتياطي من العملة عبر تخفيض حصة التوظيفات
المالية لدى البنوك العالمية المهددة وتوجيهها نحو الرقاع السيادية المأمونة وذات
الدرجة العالية من السلامة مع دعوة البنوك التونسية على النسج على منوال البنك
المركزي لتأمين توظيفاته بالخارج.
2- العدول عن تعبئة موارد بالعملة الأجنبية من الأسواق
العالمية المضطربة والاعتماد على السوق الداخلية لتوفير التمويلات الضرورية وضبط
الصيغ العملية التي يمكن اللجوء إليها في صورة تأكد الحاجة إلى تمويلات خارجية مثل
مزيد إحكام استغلال خطوط التمويل الخارجية أو تعزيز التمويل المالي الثنائي
والمتعدد الأطراف.
3- تأمين السوق النقدية الوطنية ضد تداعيات هذه الأزمة
وحمل القطاع المصرفي على تطوير تدخلاته في مجال البورصة الوطنية من خلال إحداث
صندوق يهدف إلى الإسهام في تفعيل و دعم البورصة وتجنيبها المضاربات والتطورات التي
ليس لها أي علاقة بالمعطيات الموضوعية الخاصة بالمؤسسات المسعرة بالبورصة.
وبالرجوع إلى الفترة التي امتدت من نهاية 2007 إلى سبتمبر 2008
وهي الفترة التي تميزت بتدخلات ذات الطابع البنكي والمالي قد مكنت فعلا من ضمان سلامة القطاع المصرفي والمالي
التونسي من التداعيات المباشرة للأزمة العالمية وتأمين النشاط العادي للسوق النقدية
وللبورصة التونسية رغم الانخفاض البسيط الذي شهدته في بعض الفترات وتمت هكذا المحافظة
على ثقة المتعاملين الاقتصاديين وعلى مصداقية بلادنا وسمعتها الطيبة بالخارج.
ولكن الوضع الاقتصادي العالمي المتسم بتراجع نسق النمو
وبتقلص الطلب العالمي خاصة في القطاعات التصديرية كصناعة الميكانيك والكهرباء
للسيارات وقطاع النسيج والملابس وكذلك قطاع السياحة حتم على بلادنا أن لا تقتصر
على الإجراءات السالفة الذكر لذلك أقر رئيس الدولة إحداث لجنة وطنية لرصد تطور
الظرف الاقتصادي الوطني والعالمي واقتراح التدابير الضرورية لمساندة المؤسسات
والقطاعات التي قد تتأثر من جرى تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية.
وعلى ضوء أعمال هذه اللجنة تم إقرار خطة تتضمن مجموعة من الإجراءات الظرفية
ومجموعة من الإجراءات الهيكلية لمساندة المؤسسات المتضررة ولدعم القدرة
التنافسية ومواصلة دفع التصدير وتعزيز
الحركة الاقتصادية.
و تتضمن الإجراءات الظرفية التي تتجه
أساسا إلى المؤسسات المصدرة:
-تكفل الدولة ب 50
في المئة أو بكامل مساهمة الأعراف في نظام الضمان الاجتماعي بالنسبة إلى المؤسسة
المصدرة التي تضطر إلى التخفيض في ساعات العمل ب 8
ساعات على الأقل أو تلك التي تلجأ إلى البطالة الفنية بسبب تقلص نشاط المؤسسة.
- تعهد الدولة بنقطتين من هامش القروض عند إعادة جدولتها
ومساعدة المؤسسة على تمويل الحاجيات الإضافية من المال المتداول وذلك بفضل وضع
مبلغ قدره 25 م د على ذمة الشركة التونسية للضمان لتسهيل عمليات
التمويل من طرف البنوك.
- تكفل الدولة ب 50
في المئة من كلفة تأمين الصادرات بهدف حث المؤسسات على اللجوء إلى آلية ضمان
صادراتها.
والى غاية 26
مارس 2009 بلغ عدد المؤسسات المستفيدة بإجراءات تكفل الدولة
بمساهمة الضمان الاجتماعي 72 مؤسسة منها عشرة
مؤسسة لجأت إلى البطالة الفنية.
وتضمنت الإجراءات الهيكلية تدابير تتعلق بدفع عمليات التصدير وأخرى تهم دفع الطلب
الداخلي بعنصريه الاستثمار والاستهلاك الخاص .
فبخصوص الصادرات تتمثل أهم التدابير في:
-تطوير برامج النهوض بالصادرات من خلال اعتماد برنامج
ثالث لتنمية الصادرات يغطي الفترة المتراوحة بين 2010و 2014 مع تعزيز البرنامج الحالي بمبلغ 10م
د.
-تدعيم صندوق ضمان تمويل الصادرات لمرحلة ما قبل الشحن
بالترفيع في سقف القروض المضمونة وتعزيز تدخلانه لمساندة صادرات الخدمات وذلك فضلا
عن مضاعفة رأس مال الشركة التونسية لضمان التجارة الخارجية.
-إقرار تسهيلات إضافية في مجال الصرف تتمثل بالخصوص في
الترفيع في السقف السنوي لمنحة أسفار
أعمال المصدرين وذلك بهدف إعطاء أكثر إمكانيات لتحرك المؤسسة بحثا عن الأسواق
الخارجية.
- التمديد في أجل الإسقاط التجاري من 6
أشهر الى سنة بما يمكن المؤسسة من أموال متداولة إضافية ويفتح الإمكانية للمؤسسة
المصدرة لتقديم تسهيلات إضافية لحرفائها في هذا الظرف الصعب.
وأما بخصوص دفع الطلب الداخلي فلقد تمثلت أهم التدابير
في:
- مضاعفة رأس مال بنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة
من 50 إلى 100 م د بهدف دعم قدرتها على تمويل المشاريع إذ توفر هذه
المضاعفة في رأس المال البنك إمكانيات إضافية لتمويل الاستثمار بخوالي 200 م د . يضاف إلى ذلك الإجراءات الرأسية الأخيرة المتعلقة
برفع سقف قروض هذا البنك إلي 300.000د لكل مشروع و
انتصاب فروع للبنك في كل ولايات الجمهورية بعد أن كانت فروعه متواجدة في عشر ة
ولايات فقط.
- إحداث خط تمويل ب 100
مليون أورو لتشجيع المؤسسات غير المقيمة على الانطلاق في إنجاز مشاريعها المبرمجة
عبر تمويلات مناوبة في انتظار عودة نشاط الإقراض على الأسواق العالمية الى نسقها العادي.
- التشجيع على استعمال خطوط التمويل الخارجية بالتخفيض
من تكلفة مخاطر الصرف بنسبة تتراوح بين 0,5
في المئة و2 في المئة.
-الترفيع في الإعتمادات بعنوان الاستثمار العمومي ب 20
في المئة مقارنة بتقديرات سنة 2008 وتقديم إنجاز مشاريع وبرامج استثمار في مجالات
البنية الأساسية والتجهيزات الجماعية.
- استكمال المفاوضات الاجتماعية في الوظيفة العمومية
والقطاع الخاص بما يحسن في المقدرة الشرائية ويرفع في نسق الطلب الداخلي إلى
مستويات ملاءمة للحفاظ على نسبة نمو إيجابية .
وقد تدعمت هذه الإجراءات مع تدابير أخرى على
المستوى النقدي وفي مجال الصرف وتمثلت في :
- التخفيض في نسبة الاحتياطي الإجباري في مرحلة أولى وفي
نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي ي 75
نقطة في مرحلة ثانية بما مكن من التخفيف من كافة التمويل مع توفير السيولة اللازمة
حتى تحافظ السوق النقدية التونسية على نشاطها العادي.
-إضفاء مزيد من مرونة على سياسة سعر الصرف بضبط تسعيرة
للدينار أكثر تلاؤما مع أهداف التصدير مع
الحرص قدر الإمكان على تفادي ارتفاع تكلفة الواردات التي انتفعت من تراجع أسعار جل
المواد الأولية.
وأعتقد أن مجموع هذه الإجراءات تمثل منهجية اجمالا مفيدة لتدارك تداعيات الأزمة العالمية على اقتصادنا ولكنها تبقى غير كافية...وتشكو ضعف في التطبيق و يتعين بالطبع على المؤسسات المعنية توظفها ضمن برامجها الإصلاحية أحسن توظيف كما
ينبغي في هذه الفترة بالخصوص أن يشمل تواصل الإصلاحات داخل مؤسسات الإنتاج
والخدمات كافة مجالات التصرف والتسيير.كما كان من المفروض مزيد العناية بالتنمية
الجهوية و تنويع آليات تشغيل الشباب و خاصة حاملي الشهادات مع الحرص على مقاومة
مظاهر الفساد التي تفاقمت و أصبحت تهدد اللحمة الاجتماعية................ ....................
وفي هذا المستوى لابد من التذكير بضرورة تفعيل جدي للآليات التضامن حتى تزداد ترسخا في المنظومة
التنموية التونسية وفي مقدمة هذه الآليات صندوق التضامن الوطني والبنك التونسي
للتضامن والبرامج النشيطة لتأهيل الشباب لبعث المشاريع المنتجة حتى تصبح نتائجها
ناجعة على الميدان و يستفيد بها كل التونسيين بعيدا عن عقلية الانتماءات و
الانتهازية. وهي آليات في استطاعتنا ان نجعلها نموذجية وتنسج على منوالها بعض
الدول التي تريد الرفع في مستوى عيش شعوبها و مقاومة خطر البطالة..و في الوقت الذي يعيش فيه العالم اكبرازمةمن جراءالمضاربات لمالية شع, و طغيان قانون الغاب,
يتعين ان تبرز تونس بحق و في الواقع الملموس كورشة عمل
جادة تعمل بجدلإرساء منوال جديد يحقق التنمية المستدامة في كافة الجهات و تجسيم
تكافئ الفرص الموضوعية لكل الطاقات والكفاءات وذلك مع التوسع في ما يمكن أن نسميه "منهج
الاقتصادي التضامني" الذي يطمح دوما إلى تدعيم بناء المجتمع المتضامن القوي والمتوازن
بعيدا عن انحرافات دعاة الليبرالية المتوحشة.نحن دوما دعاة للتحرر في جميع
المجالات ودعاة لتشجيع المبادرات الخلاقة ولكن
نؤمن في نفس الوقت بأن التحرر بدون ضوابط و رقابة جدية يِؤدي إلى تفكك المجتمع وتأزم كافة
أوضاعه و في النهاية إلى الرجوع إلى الوراء
والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته. 26.04.09
رشيد صفر